سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يجاهرهم بالتبري مما هم فيه و{أن أعبد} هو بتأويل المصدر التقدير عن عبادة، ثم حذف الجار فتسلط الفعل ثم وضع {أن أعبد} موضع المصدر، وعبر عن الأصنام ب {الذين} على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل، و{تدعون} معناه تعبدون، ويحتمل أن يريد تدعون في أموركم وذلك من معنى العبادة واعتقادها آلهة وقرأ جمهور الناس {قد ضلَلت} بفتح اللام، قرأ يحيى بن وثاب وأبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف {ضلِلت} بكسرها، وهما لغتان و{إذاً} في هذا الموضع متوسطة وما بعدها معتمد على ما قبلها فهي غير عاملة إلا أنها تتضمن معنى الشرط فهي بتقدير إن فعلت ذلك ف {أهواء} جمع هوى وهو الإرادة المحبة في المرديات من الأمور هذا غالب استعمال الهوى وقد تقدم، وقوله تعالى: {قل إني على بينة من ربي} الآية، هذه الآية تماد في إيضاح مباينته لهم، والمعنى قل إني على أمر بين فحذف الموصوف ثم دخلت هاء المبالغة كقوله عز وجل: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} [القيامة: 14] ويصح أن تكون الهاء في {بينة} مجردة للتأنيث، ويكون بمعنى البيان، كما قال: {ويحيى من حيَّ عن بينة} [الأنفال: 42] والمراد بالآية أني أيها المكذبون في اعتقادي ويقيني وما حصل في نفسي من العلم على بينة من ربي {وكذبتم به} الضمير في {به} عائد على بين في تقدير هاء المبالغة أو على البيان التي هي {بينة} بمعناه في التأويل الآخر، أو على الرب، وقيل على القرآن وهو وإن لم يتقدم له ذكر جلي فإنه بعض البيان الذي منه حصل الاعتقاد واليقين للنبي عليه السلام، فيصح عود الضمير عليه.
قال القاضي أبو محمد: وللنبي عليه السلام أمور أخر غير القرآن وقع له العلم أيضاً من جهتها كتكليم الحجارة له ورؤيته للملك قبل الوحي وغير ذلك وقال بعض المفسرين في {به} عائد على {ما} والمراد بها الآيات المقترحة على ما قال بعض المفسرين، وقيل المراد بها العذاب، وهذا يترجح بوجهين: أحدهما من جهة المعنى وذلك أن قوله {وكذبتم به} يتضمن أنكم واقعتم ما تستوجبون به العذاب إلا أنه ليس عندي، والآخر من جهة اللفظ وهو الاستعجال الذي لم يأت في القرآن استعجالهم إلا العذاب لأن اقتراحهم بالآيات لم يكن باستعجال، وقوله {إن الحكم إلا لله} أي القضاء والإنفاذ {يقص الحق} أي يخبر به، والمعنى يقص القصص الحق، وهذه قراءة ابن كثير وعاصم ونافع وابن عباس، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر {يقضي الحق} أي ينفذه، وترجع هذه القراءة بقوله {الفاصلين} لأن الفصل مناسب للقضاء، وقد جاء أيضاً الفصل والتفصيل مع القصص، وفي مصحف عبد الله بن مسعود {وهو أسرع الفاصلين} قال أبو عمرو الداني: وقرأ عبد الله وأبيّ ويحيى ابن وثاب وإبراهيم النخعي وطلحة الأعمش {يقضي بالحق} بزيادة باء الجر، وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير {يقضي الحق وهو خير الفاصلين}، وقوله تعالى: {قل لو أن عندي} الآية، المعنى لو كان عندي الآيات المقترحة أو العذاب على التأويل الآخر لقضي الأمر أي لوقع الانفصال، وتم التنازع لظهور الآية المقترحة أو لنزل العذاب بحسب التأويلين، وحكى الزهراوي: أن المعنى لقامت القيامة، ورواه النقاش عن عكرمة، وقال بعض الناس: معنى {لقضي الأمر} أي لذبح الموت.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قول ضعيف جداً لأن قائله سمع هذا المعنى في قوله تعالى: {وأنذرههم يوم الحسرة إذ قضي الأمر} [مريم: 39] وذبح الموت هنا لائق فنقله إلى هذا الموضع دون شبه، وأسند الطبري هذا القول إلى ابن جريج غير مقيد بهذه السورة، والظن بابن جريج أنه إنما فسر الذي في يوم الحسرة {والله أعلم بالظالمين} يتضمن الوعيد والتهديد.


{مفاتح} جمع مفتح وهذه استعارة عبارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان ولو كان جمع مفتاح لقال مفاتيح، ويظهر أيضاً أن {مفاتح} جمع مفتح بفتح الميم أي مواضع تفتح عن المغيبات، ويؤيد هذا قول السدي وغيره {مفاتح الغيب} خزائن الغيب، فأما مِفتح بالكسر فهو بمعنى مفتاح، وقال الزهراوي: ومَفتح أفصح، وقال ابن عباس وغيره، الإشارة ب {مفاتح الغيب} هي إلى الخمسة التي في آخر لقمان، {إن الله عنده علم الساعة} [لقمان: 34] الآية، لأنها تعم جميع الأشياء التي لم توجد بعد، ثم قوي البيان بقوله {ويعلم ما في البر والبحر} تنبيهاً على أعظم المخلوقات المجاورة للبشر وقوله {من ورقة} على حقيقته في ورق النباتات، و{من} زائدة و{إلا يعلمها} يريد على الإطلاق وقبل السقوط ومعه وبعده، {ولا حبة في ظلمات الأرض} يريد في أشد حال التغيب، وهذا كله وإن كان داخلاً في قوله {وعنده مفاتح الغيب} عند من رآها في الخمس وغيرها ففيه البيان والإيضاح والتنبيه على مواضع العبر، أي إذا كانت هذه المحقورات معلومة فغيرها من الجلائل أحرى، {ولا رطب ولا يابس} عطف على اللفظ وقرأ الحسن وعبد الله بن أبي إسحاق {ولا رطبٌ ولا يابسٌ} بالرفع عطفاً على الموضع في {ورقة}، لأن التقدير وما تسقط ورقة و{إلا في كتاب مبين} قيل يعني كتاباً على الحقيقة، ووجه الفائدة فيه امتحان ما يكتبه الحفظة، وذلك أنه روي أن الحفظة يرفعون ما كتبوه ويعارضونه بهذا الكتاب المشار إليه ليتحققوا صحة ما كتبوه، وقيل: المراد بقوله: {إلا في كتاب} علم الله عز وجل المحيط بكل شيء، وحكى النقاش عن جعفر بن محمد قولاً: أن الورقة يراد بها السقط من أولاد بني آدم، والحبة يراد بها الذي ليس يسقط، والرطب يراد به الحي، واليابس يراد به الميت، وهذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد رضي الله عنه، ولا ينبغي أن يلتفت إليه، وقوله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم} الآية، فيها إيضاح الآيات المنصوبة للنظر، وفيها ضرب مثل للبعث من القبور، أن هذا أيضاً إماتة وبعث على نحو ما، والتوفي هو استيفاء عدد، قال الشاعر [منظور الوبري]: [الرجز]
إنَّ بني الأَدْرَمِ لَيْسُوا مِنْ أَحَدْ *** وَلاَ توفّاهُمْ قريشُ في العَدَدْ
وصارت اللفظة عرفاً في الموت، وهي في النوم على بعض التجوز، و{جرحتم} معناه كسبتم، ومنه جوارح الصيد أي كواسبه، ومنه جوراح البدن أنها كواسب النفس، ويحتمل أن يكون {جرحتم} هنا من الجرح كأن الذنب جرح في الدين، والعرب تقول جرح اللسان كجرح اليد، وروي عن ابن مسعود أو سلمان شك ابن دينار، أنه قال: إن هذه الذنوب جراحات فمنها شوى ومنها مقتلة، ألا وإن الشرك بالله مقتلة، و{يبعثكم} يريد الإيقاظ، ففي {فيه} عائد على النهار قاله مجاهد، وقتادة والسدي، وذكر النوم مع الليل واليقظة مع النهار بحسب الأغلب وإن كان النوم يقع بالنهار واليقظة بالليل فنادر، ويحتمل أن يعود الضمير على التوفي أي يوقظكم في التوفي أي في خلاله وتضاعيفه قاله عبد الله بن كثير، وقيل يعود على الليل وهذا قلق في اللفظ وهو في المعنى نحو من الذي قبله، وقرأ طلحة بن مصرف وأبو رجاء {ليقضي أجلاً مسمى} والمراد بالأجل آجال بني آدم، {ثم إليه مرجعكم} يريد بالبعث والنشور {ثم ينبئكم} أي يعلمكم إعلام توقيف ومحاسبة.


{القاهر} إن أخذ صفة فعل أي مظهر القهر بالصواعق والرياح والعذاب فيصح أن يجعل {فوق} ظرفية للجهة لأن هذه الأشياء إنما تعاهدها العباد من فوقهم، وإن أخذ {القاهر} صفة ذات بمعنى القدرة والاستيلاء ف {فوق} لا يجوز أن تكون للجهة، وإنما هي لعلو القدر والشأن على حد ما تقول: الياقوت فوق الحديد، {ويرسل عليكم} معناه يبثهم فيكم، و{حفظة} جمع حافظ مثل كاتب وكتبة، والمراد بذلك الملائكة الموكلون بكتب الأعمال، وروي أنهم الملائكة الذين قال فيهم النبي عليه السلام «تتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» وقاله السدي وقتادة، وقال بعض المفسرين {حفظة} يحفظون الإنسان من كل شيء حتى يأتي أجله، والأول أظهر، وكلهم غير حمزة قرأ {توفيه رسلنا} على تأنيث لفظ الجمع. كقوله عز وجل: {ولقد كذبت رسل من قبلك} [الأنعام: 34] وقرأ حمزة {توفاه رسلنا} وحجته أن التأنيث غير حقيقي، وظاهر الفعل أنه ماضٍ كقوله تعالى: {وقال نسوة} [يوسف: 30] ويحتمل أن يكون بمعنى تتوفاه فتكون العلامة مؤنثة، وأمال حمزة من حيث خط المصحف بغير ألف فكأنها إنما كتبت على الإمالة، وقرأ الأعمش {يتوفيه رسلنا} بزيادة ياء في أوله والتذكير، وقوله تعالى: {رسلنا} يريد به على ما ذكر ابن عباس وجميع أهل التأويل ملائكة مقترنين بملك الموت يعاونونه ويأتمرون له، وقرأ جمهور الناس {لا يفرّطون} بالتشديد، وقرأ الأعرج {يفرطون} بالتخفيف، ومعناه يجاوزون الحد مما أمروا به، قال أبو الفتح: فكما أن المعنى في قراءة العامة لا يقصرون فكذلك هو في هذه لا يزيدون على أمروا به، ورجح اللفظ في قوله {ردوا} من الخطاب إلى الغيبة، والضمير في {ردوا} عائد على المتقدم ذكرهم، ويظهر أن يعود على العباد فهو إعلام برد الكل، وجاءت المخاطبة بالكاف في قوله {عليكم} تقريباً للموعظة من نفوس السامعين، و{مولاهم} لفظ عام لأنواع الولاية التي تكون بين الله وبين عبيده من الرزّق والنصرة والمحاسبة والملك وغير ذلك، وقوله {الحق} نعت ل {مولاهم}، ومعناه الذي ليس بباطل ولا مجاز، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والأعمش {الحقَّ} بالنصب، وهو على المدح، ويصح على المصدر، {ألا له الحكم} ابتداء كلام مضمنه التنبيه وهز نفس السامع، {الحكم} تعريفه للجنس أي جميع أنواع التصرفات في العباد و{أسرع الحاسبين} متوجه على أن الله عز وجل حسابه لعبيده صادر عن علمه بهم فلا يحتاج في ذلك إلى إعداد ولا تكلف سبحانه لا رب غيره، وقيل لعلي بن أبي طالب كيف يحاسب الله العباد في حال واحدة؟ قال: كما يرزقهم في حال واحدة في الدنيا.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12